عاجل

سعر الفضة اليوم الثلاثاء ينتظر مزيد من الارتفاع    سعر اليورو اليوم الثلاثاء يختبر الدعم    سعر الذهب عالمياً اليوم الثلاثاء يحاول التعافي     

صرخة وطن.. للكاتبة والإعلامية مها جميل الباشا

2018-05-06

التقينا أدمعت عيوننا، أحبة كانوا معنا في الأمس.. فارقونا.. تركوا في ذمتنا أحبتهم.. كم كان جميلاً اللقاء بصديق لم أره منذ زمن بعيد.. صديق وهب نفسه لخدمة ذوي أحبتنا الذين استشهدوا دفاعاً عن الوطن.

بدأ صديقي بالحديث عن القصة بأسلوب سرد محمد، البطل الرئيسي للقصة وعيناه تدمعان كالطفل الصغير قائلاً:

بينما كانت المجموعة الأولى من الفرق العسكرية تتقدم باتجاه تحرير ما تبقى من الأراضي التي سيطرت عليها "داعش"، بمساندة ودعم من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وبعد مسير تجاوز الخمس عشرة ساعة حيث وصلت المجموعة إلى مكان يشبه الغابة من كثرة الأشجار التي كانت تحيط بهم، والتي أنا من ضمنها، نادى قائد المجموعة علينا بصوت مرتفع: دعونا نستريح ساعة ومن ثم نكمل مسيرنا، المعركة شرسة وعلينا الانتباه أكثر، نحن لا نعرف من هو عدونا الحقيقي ومن سنواجه في طريقنا حيث الهدف المنشود لتحرير ما تبقى من الأراضي، لتتوزع  المجموعة إلى فرق حيث كل منهم جلس بالطريقة التي أحبها.

بينما كنت متوجهاً للجلوس تحت شجرة عملاقة عمرها مئات السنين، رافقني جندي آخر اسمه يوسف لنتشارك الاستراحة معاً، حينها لم أدرك أن هذه الجلسة سيكون لها وقعها في حياتي، إذ لا يمكن أن أنساها ما حييت (يتحدث وعيناه تدمعان).

أخرجت من حقيبتي علبة متوسطة الحجم مملوءة بالحلويات المشكلة كانت قد صنعتها لي زوجتي وأرسلتها مع أحد رفاقي عندما كان في إجازة لساعات (لا أعرف آنذاك لماذا كانت يداي ترتجفان.. شعور انتابني لأول مرة ولا يمكنني إلاّ أن أضعه في إطار الكآبة) عندها نظرت إلى يوسف وقدمت له بعضاً منها فسألني عن كيفية صنعها ومن صنعها، وقتئذٍ أدركت لماذا شعرت بالحزن ليبدأ حديثي مع يوسف:

أنا: زوجتي تعرف كم أحب الحلويات لذلك كلما نزل رفيق لي في إجازة ترسل لي بعضاً منها.. هل تحب الحلويات.

يوسف: أحبها لكن ليس دائماً، لدي أولويات قبل أن أتعلم صنع الحلويات.

أنا: ألا تعرف زوجتك صنع الحلويات.

يوسف: زوجتي متوفية منذ ثماني سنوات وأنا من أعيل أسرتي في كل أمر تحتاجه.

أنا: لماذا لم تتزوج من بعدها.

يوسف: لا يمكن لأي امرأة أن تحب أبناء ليسوا أبناءها، وأنا لا أريد لأبنائي معاناة ثانية بعد معاناتهم التي عاشوها بفقدهم لوالدتهم.

أنا: كم  أعمار أبنائك.

يوسف: يوشع عمره أحد عشر عاماً ووئام عشرة أعوام أما الابنة الوحيدة "أمل" فعمرها تسعة أعوام. وجميعهم متميزون في الدراسة.

أنا: من معهم في البيت إذاً.

يوسف: والديّ.

أنا: هل هم من يقومون بالاعتناء بهم.

يوسف: لا في الحقيقة والديّ يحتاجان إلى من يعيلهما فهما كبيران في السن، وغير قادرين على الحراك أكثر من خطوتين هنا وهناك في البيت.

أنا: طيب من يعتني بأبنائك؟

يوسف: وحدهم يعتنون بأنفسهم ويساعدون بعضهم البعض.

أنا: لكنهم صغار.

يوسف: صحيح.. لكن أنا ربيتهم على أن يعتمدوا على أنفسهم وعلى جديهما.

أنا: كان بإمكانك أن تبقى مع عائلتك حيث تحتاجك ولا يوجد معيل لهم غيرك.

يوسف: لو كان ما تتعرض له سورية من أحداث شبيهة بحرب الند للند (حرب تقليدية) لكنت بقيت إلى جانب عائلتي، لكن أنت تعرف أي نوع من الحروب التي تواجهنا نحن السوريين، وأنا وأنت نعرف أي نوع من الهجمات التي تواجهنا في معركتنا اليوم حيث نخوضها الآن (ذبح وتقطيع) ويا ويل من يقع بين أيديهم ميتاً كان أم حياً.. معركة كسر عظم.. وهذا ما لا أقبله أبداً، أن أكون متفرجاً ومنتظراً لسماع خبر هنا وخبر هناك.

أنا: لكن كيف سيعيش أبناؤك ولا يوجد أحد يصرف عليهم.

يوسف: ولداي يوشع ووئام اتفقا مع أبو أحمد صاحب مطعم في قريتنا أن يعملا لديه بعد أن ينهيا دراستهما عند الساعة الرابعة عصراً ويعودان إلى البيت عند الساعة الثانية عشرة ليلاً.

أنا: والمدرسة.

يوسف: مدرستهما في الصباح من الساعة السابعة حتى 12 ظهراً.

أنا: لكن البنت صغيرة كيف تبقى في البيت لوحدها.

يوسف: عندما تنتهي الحرب إنشاء الله وتزورنا سترى تلك الطفلة ابنة السنوات التسع  وكأنها ابنة عشرين عاماً.

أنا: أتمنى ذلك.. لكن لا يمكن لأي أب أن يترك أطفاله لقسوة الحياة وكلنا يعرف أي شرخ وصلت إليه الحالة الاجتماعية في بلدنا.. الأخ لا يحب أخاه، والأخت لا تحب أختها، والأقارب أصبحوا عقارب كما يقول المثل.

يوسف: لا يوجد لي أخ ولا أخت أنا وحيد لأهلي لا أعرف معاناة تنكر الأخوة لبعضهم.

أنا: ما زلت مذهولاً بك كيف تستطيع أن تتحمل أن تترك عائلتك وهي بأشد الحاجة إليك، وحتى أننا بعيدون كثيراً عنهم.

يوسف: كيف لي أن أحمي عائلتي الصغيرة وعائلتي الكبيرة(تحترق) من ينقذها، وإذا احترقت عائلتي الكبيرة لا وجود لعائلتي الصغيرة، كل أبناء سورية أبنائي وواجبي أن أحميهم.

أنا: أين الذين فروا وأولادهم من البلد خوفاً من مواجهة عدونا، عدو سورية وشعبها منك أنت الذي هرع مسرعاً لإنقاذ وطنه تاركاً وراءه أطفالاً يواجهون قسوة الحياة لوحدهم.

وبينما محمد ويوسف يتحدثان نادى قائد المجموعة: جميع الجنود إلى الأمام من حيث انتهينا.

مشينا ساعات عدة ولا ندري أي التضاريس تواجهنا حيث المكان أهلكنا تارة نمشي بين الوديان وتارة من مرتفع إلى مرتفع تحيط بنا الأشجار الكثيفة التي لا نعرف أي قادم يختبىء بين ثناياها.

ساعات وساعات ونحن والجنود نسير نحو الهدف المراد تحريره ولم تمض إحدى عشرة ساعة حتى واجهنا هجوم مباغت لـ"داعش" مدجج بالأسلحة.

معركة كانت قاسية بكل تفاصيلها مع أن مجموعتنا استطاعت أن تسحق إرهابيي "داعش" إلاّ أننا خسرنا نخبة من رجالنا العظماء، منهم من استشهد، ومنهم من جرح، ومنهم من فقد قدميه، ومنهم من أصيب بالعمى، ومن بقوا قاموا يلملمون جرحاهم وشهداءهم خوفاً من هجوم مباغت آخر.

علمت القيادة بما حصل مع مجموعتنا وأرسلت على الفور تعزيزات كبيرة، مصطحبة معها عددا من سيارات الإسعاف لنقل الجرحى والشهداء على حد سواء إلى المستشفيات..

هنا توقف صديقي ليمسح عينيه من الدموع التي انهمرت دون استئذان، وقتها شعرت بريبة مخيفة لما يدور في رأسي متسائلة:

ماذا جرى ليوسف باعتبار أن محمد هو من يسرد القصة؟

لم يرد صديقي بل استمر في البكاء، وفي لحظة ذهول مني لما يحدث لصديقي قاطعته وسألته:

ما الذي جرى ليوسف؟ قلبي يعتصر قلقاً لسماع خبر عنه ماذا قال لك محمد الذي تم إنقاذه من المعركة؟

توقف صديقي لحظة وقال: ومن قال لك أن محمد سَلم من المعركة، أنت سمعت مني القصة كما يرويها محمد لكن لم أقل لك كيف كان وضع محمد حينما سرد لي القصة.

في هذه اللحظة رأسي لم يعد يفكر فقط بما جرى ليوسف، بل بدأ يفكر بما جرى لمحمد أيضاً.. وقتئذٍ صرخت عاليا في وجه صديقي وقلت له حرام عليك.. أرعبت قلبي وبدأتُ أرتجف من شدة الخوف كي لا أسمع شيئاً قد يجعلني تعيسة.

وعلى الفور وبعد أن شاهدني ارتجف خوفاً من سماع أي شيء لا أحبه بدأ يتحدث عن الجندي محمد الذي فقد ساقيه في المعركة، والذي أصرّ أن يأتي إلى عائلة يوسف ليتعرف عليها من جهة وليعزيها من جهة ثانية. ساعتها أدركت حجم مأساة محمد وما أصابه في تلك المعركة، ليكمل صديقي حديث محمد قائلاً:

عندما كنا جريحَيْ المعركة في المستشفى كانت إصابة يوسف في الرأس بينما قام أحد إرهابيي "داعش" بقطع ساقيّ ليتركني أنزف دون شفقة إلى أن حضرت سيارة إسعاف لتنقلني إلى المستشفى مغمى علي.

وبعد أن تعافيت وخرجت، كانت أولويتي وقبل أن أذهب إلى عائلتي زيارة عائلة يوسف، نعم لبت عائلتي لي هذه الأمنية وذهبنا جميعاً إلى منزل يوسف لأشاهد ما لم تصدقه عيناي، وليكن في الوقت ذاته رداً على ما أدهشني به يوسف حينما سألته عن السبب في تركه عائلته لتواجه قسوة الحياة، باعتبار أن لا معيل لها سواه في سبيل الدفاع عن الوطن، لا يمكن لأي إنسان أن ينسى تفاصيل هذه اللوحة (أطفال رائعون يقومون بواجب عزاء والدهم وهم مبتسمون، مرددين على مسمع كل من حضر "الحمد لله والدنا ترك لنا وطناً نعتز ونفتخر به). خرجت من الزيارة وعرفت كم نحن بحاجة إلى بناء المواطن قبل بناء الوطن.

ختم صديقي قائلاً :

كيف لي أن أنسى هذه القصة التي تحكي عن شهيدين الأول حي والثاني في الجنة، كما وهي تجسد قيماً أخلاقية ومعنوية، كم نحن بحاجة لها في هذه الحرب الطويلة.

 

 


التعليقات

إدارة الموقع ليست مسؤولة عن محتوى التعليقات الواردة و لا تعبر عن وجهة نظرها

لا يوجد تعليقات حالياً

شاركنا رأيك

Create Account



Log In Your Account