عاجل

القبض على سارقي الكابلات الكهربائية بين محطتي دير علي وعدرا    تراجع أسعار الذهب عالمياً الأربعاء مع ارتفاع الدولار والتركيز على بيانات التضخم الأمريكية    انخفاض أسعار النفط الأربعاء لليوم الثاني مع زيادة مخزونات الخام الأمريكية    

الهجرة إلى أوروبا قديماً جديداً؟؟

2015-10-12

الهجرة إلى أوروبا قديماً جديداً؟؟ بقلم : اسبازيا الشام
ان موجات الهجرة على مر التاريخ من بلاد الشام كانت تتم على أثر صدامات الحروب والاضطرابات الاجتماعية في البلاد بحيث كان يتجمع النازحون في لبنان، فيتثقفون بثقافة البحر وأعمال التعدين والصناعات التجارية الرائجة آنذاك في مصانع صور وصيدا. وبعد ذلك تقوم حكومات المدن المنظمة، أمثال حكومات صور، أو صيدا، أو جبيل، أو بيروت بتدبير هجرة الفائض من سكانها لاستثمار نشاطهم في مستعمرات بعيدة، أو في مراكز تجارية، تبقى على علاقة نظامية مع البلد الأم. ولنذكر هنا أن هذا الأمر ذاته حدث مع البلاد الاوروبية، التي استعمرت مناطق القارة الأميركية، قبل أن تستقل هذه وتصبح دولاً ذات سيادة كما هي الآن.
أما أوروبا هذه التي قامت على قصة خطفها الهجرات الفينيقية الكبرى، فقد كانت ذات أثر كبير في أساطير الحضارة الاغريقية.
وإن قصة انشاء قرطاجة، المدينة التي بنت امبراطورية ضخمة أعجزت جميع قوى البحر المتوسط لفترة طويلة من الزمن. فتاريخ انشاء هذه المدينة يذكر أن البعثة التي أنشأتها كانت من مدينة صور، وبقيادة امرأة اسمها - اليسا - ما زال بحارة شواطىء البحر المتوسط يرددون اسمها، تيمناً، في صور وصيدا. وقد شاء المؤرخون والشعراء أن ينسجوا قصصاً وأساطير حول هذه المرأة، فكانت موضوعاً رئيسياً لشاعر الرومان فرجيل في ملحمته - الانياد - باسم ديدو -.
والفينيقيون كانوا يتبعون عدة طرق في توسعهم وانتشارهم في بلاد البحر المتوسط. فهم كانوا تجاراً ومعلمي حضارة أحياناً، ومهاجرين للاستيطان وانشاء بلاد جديدة، أو متسلطين وفارضي جزية على الذين يعيشون في ظل ادارتهم.
وبالروح الفينيقية المنفتحة نفسها التي حافظت على السلام والازدهار آنذاك في أقسى الظروف، وفي معسكر الاعداء الذين قضوا على قرطاجة، وقاوموا كل فكرة سيادة واستقلال كامل لغيرهم من الشعوب. كما أنها بالاندفاع عينه الذي حمل مدن بلاد الشام الى التوسع في البحر، اندفعت فبنت أساطيلها التجارية، وانبرت لتكون وسيطاً لتنسيق العلاقات الاقتصادية والثقافية بين شعوب حوض المتوسط. وهذا العمل انما هو تقاليد حضارة عريقة كان ينقلها معهم السوريون فيتوارثونها جيلاً بعد جيل، مع توارث علومهم وصناعاتهم وطقوس عباداتهم.
ان النشاط الاقتصادي أمر أساسي في النشاط الحضاري. لكنه لا يحمل من المغريات ما يكفي لتحرير الانسان من قيود الأرض التي ولد فوقها، ومن جواذب المجتمع الذي يعيش فيه، لينطلق مع المجهول يبحث عن أرض جديدة ومجتمع جديد. ولم تكن الرغبة في الثراء الدافع الأساسي للسوريين الأول في نزوحهم واستيطانهم البلاد البعيدة. فالدافع الهام الذي أطلقهم من أرضهم، هو الدافع الذي حرر الاوروبي وأطلقه للبحث عن المغامرة في آسيا وأفريقيا في القرنين الماضيين. وهو ذاته ما يدفع افراداً وجماعات من الشباب المعاصرين للانفصال عن مجتماعتهم، والتجوّل في بلاد العالم، دون أن يحملوا ما يكفي أود تنقّلهم وطعامهم.
انها روح البعل الكنعاني، روح السيادة على الطبيعة والرغبة في استكشافها؛ ففيها دوافع التجربة لقدرة الانسان. وهي بالتالي عملية تطهير للنفس بتحميلها المشاق أملاً بالوصول الى شيء أو مكان يرضي بوجوده ما في النفس من مشاعر وتوق لحل الغموض وامتلاك اسرار المجهول. وهذه الدوافع هي ذاتها التي تجعل العلماء والباحثين ينسون أنفسهم وعلاقاتهم مع عائلاتهم في سبيل متابعة بحث أو الوصول الى حل معضلة فكرية.
فالفينيقيون لم يتخذوا الحرب والفتح وسيلة للاستفادة من خيرات البلاد الأخرى، بل كانت لهم فلسفة خاصة يتعاملون بها مع الآخرين، تختلف كل الاختلاف عن فلسفة الغزو والسيطرة بالقوة. ومن هنا، ومن الآثار التي تركها الفينيقيون في ثقافة من كانوا يتعاملون معهم، نجد أن غزوهم لبلاد المتوسط، ولشواطىء الأطلسي الشرقية كان غزواً ثقافياً علمياً تعاونياً، وليس غزو سلاح ونهب بلاد وثروات أرض.
وبهذه السلطة الثقافية، التي كانوا يصلون بها الى حيث تصل معاملاتهم التجارية، جنوا من العالم القديم ما لم تستطع ان تجنيه جميع قوى الحرب والدمار في الدول المحاربة الكبرى المعاصرة لهم.
ومثل هذا النجاح العظيم، الذي دام أكثر مما دام أي نجاح لشعب من الشعوب وأنجز من المستعمرات والمدن الكبرى والكشوفات، ما لم ينجزه غيره، كان يتطلب نظاماً اجتماعياً يرعاه ويحفظ توازنه. وهنا لابد من استعراض الملامح القليلة التي وصلتنا عن نظام الفينيقيين، لعلنا نستنتج تفسيراً لديمومة الازدهار في المدن الفينيقية، ومعنى عدم نشوء ثورات اجتماعية وعمليات اغتصاب للسلطة فيها. ولعل النهج الفينيقي في الادارة والتعاون والتعايش المسالم بين الشعوب يستحق الدرس، لإعادة النظر بمفاهيم علم الاجتماع وفلسفة التاريخ، أكثر مما يستحق مطالعته كتاريخ مضى وتجاوزه التطوّر.
أما النظام الفينيقي الذي كان يهيئ الفرصة أمام الأفراد للتعاون ويساندهم في رحلات الكسب ويدفعهم الى مغامرات الاستكشاف والانشاء فلم يكن سوى تشكّل للمشاعر الطبيعية التي كانت تتأتى عن أخلاقية العقائد الكنعانية نحو الكون ومركز الانسان فيه، ونحو البطولة وأعمال الابداع ومسؤولية القيادة.
وفي التاريخ الحديث وإبان الحكم العثماني كان سوء الأوضاع الاقتصادية و الاضطرابات السياسية في الوطن العربي من أهم أسباب الهجرة إلى أمريكا. وتشير كل الدلائل إلى أولوية العامل الاقتصادي لدى المغتربين الأوائل الذين أغرتهم فكرة الثروة المفاجئة وما يمكن أن تمنحهم من مكانة حين العودة إلى الوطن.
أما الأسباب الأخرى فهي الهرب من الاضطهاد أو التجنيد الإجباري أو عدم الرضى عن الأوضاع السياسية والاجتماعية . ويمكن القول إن الهجرة ذات الطبيعة السياسية قد بدأت بعد نكبة فلسطين عام 1948 ثم تلتها الهجرة ذات الطبيعة العلمية بعد حرب حزيران 1967م، وكان الغرض منها الحصول على الدرجات العلمية والتخصصات التقنية وقد آثر بعض هؤلاء البقاء بالولايات المتحدة والاستقرار فيها. وقد أعطت هده الموجة من المغتربين العرب تميزاً خاصاً من الناحية العلمية إضافة إلى أنها حملت معها هموم الوطن الأم وقضاياه المصيرية .
ولقد واجه المغتربون الأوائل أوضاعاً اقتصادية شاقة، ولكنهم تمكنوا بصبرهم ودأبهم ومثابرتهم من تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة. كان معظم المهاجرين السوريين قبل الحرب العالمية الأولى يعملون في ميدان التجارة. وكانت مهمة البائع المتجول تدر أرباحاً طيبة على صاحبها ولا تتطلب إلا قليلا من الخبرة ورأس المال واللغة الإنكليزية. ولذلك فقد كانت هده المهنة محطة عبور مر بها معظم المهاجرين الجدد، عدا عن أنها عجلت بتثقيف أصحابها لأن احتكاكهم الدائم بالأمريكيين أكسبهم اللغة وقيم الحياة الجديدة بما في ذلك فكرة الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة. وهكذا يمكن تسمية الدور الأول الذي مرت به الهجرة السورية إلى أمريكا بأنه دور البائع المتجول الذي امتد حتى عشية الحرب العالمية الأولى واتسم بروح المغامرة والكشف وبداية الاستقرار.
وقد استقر نحو ربع المهاجربن في الولايات الشمالية الشرقية الصناعية، كما أن ربعهم الآخر قد عمل في مجال الزراعة واستقر في الولايات الجنوبية. واشتغل قسم من المهاجرين في الصناعة وحققوا نجاحا باهرا، فقد عمل أخوان سوريان في صناعة الكفوف وحققا أرباحاً كبيرة، كما صنع سوري آخر عام 1904 أول مخروط من البسكويت لوضع المثلجات عرفه العالم. وبنى أحد السوريين طائرة دمرت العواصف محركها ثلاث مرات ولكنه كان يعاود الكرة من جديد.
وازدادت الهجرة إلى كندا وأمريكا من شتى البلدان العربية وخاصة بعد نكبة فلسطين وحرب حزيران 1967 والحرب الأهلية اللبنانية وحرب الخليج.
وقد عمل المغتربون في التجارة والصناعة حتى أصبحوا من الركائز القوية لاقتصاد جمهوريات أمريكا الجنوبية، كما أن قسماً من أبناء الجاليات العربية اتجه نحو التعليم الفني و المهني بحيث أصبح منهم المهندسون و الأطباء والمحامون والكتاب والمدرسون ومنهم من تفوق في بعض المجالات العلمية وأصبح يتمتع بشهرة كبيرة ولم يقتصر المغتربون في نشاطهم على المجالات المادية فقط بل دخلوا أيضاً ميادين الحياة الفكرية والأدبية والاجتماعية فأسسوا النوادي والجمعيات وأصدروا الصحف والمجلات باللغة العربية ولغة البلاد نفسها كما أنشؤوا المياتم ودور الرعاية الاجتماعية والمصحات والمستشفيات والكنائس.
وهكذا فإن للمغتربين السوريين في أمريكا الجنوبية وزناً كبيراً في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولكن ضعف التنظيم وعدم وجود الخطط والأطر التي توجه طاقاتهم وتوحد جهودهم أضعف في الماضي من مركزهم وحدّ بالتالي من دورهم الفعال.
ولكن أخطر الهجرات وأسوأها الهجرة الأخيرة للسوريين بعد هذه الحرب الطاحنة، حيث ساهم الكل في تأجيجها، لكن هذه الهجرة أعطت صورة سيئة عن الإنسان السوري بعكس كل الهجرات السابقة أي أن الخسارة كانت مزدوجة، خسارة الإنسان السوري وسمعته، فالإنسان السوري كما أوضحنا إنسان حضاري صاحب فكر مبدع يحمل على أكتافه حضارة أجداده منذ آلاف السنين، وكل ما أرجوه من السوريين أن يكونوا سفراء جيدين لبلدهم ويقدمون صورة مشرقة عن حضارتهم وتاريخهم المؤغل في القدم.
لقد خسرت سورية الكثير من ثرواتها الطبيعية في هذه الحرب الشرسة، لكن خسارتها الكبرى كانت بثرواتها البشرية ولاسيما الشباب، فمنهم من استشهد في ساحات الحرب ومنهم من كان ضحية القذائف والتفجيرات الارهابية ومنهم من غرر به فتم غسل أدمغة الشباب وجرها للانحراف وخيانة الوطن، والخسارة الأخيرة هي خسارة الشباب الذي هاجر إما بهدف الدراسة أو من الحرب إلى المجهول.
والغرب استطاع تدمير بلادنا ونهب خيراتها دون أن يخسر شيئاً هذه المرة، لأن التدمير كان بأيدينا وأموالنا، لكن أهم ما سلبه منا هو أبناؤنا الشباب الذين هم عماد الوطن وبهم سوف نعيد بناءه من جديد.


التعليقات

إدارة الموقع ليست مسؤولة عن محتوى التعليقات الواردة و لا تعبر عن وجهة نظرها

لا يوجد تعليقات حالياً

شاركنا رأيك

Create Account



Log In Your Account